ماذا فعل مازن محمد في "السرير 36"؟

نُشر بتاريخ 2025/07/06


ماذا فعل مازن محمد في "السرير 36"؟

 

 

(كان ظلُّه، هو الآن يسير ليلاً).

السرير 36 - ص 78                                     

 

(1)

يبدو لي أنَّتمييز هذا العصر بأنَّه "عصر الرواية" على حساب الشِّعر وفنون الكتابةالأخرى، هو نوعٌ من الكسل النَّقدي، والتوصيف المُخِل. فهذا العصر، والذي سبقه،والذي سيليه، هي عصور الكلمة، سوا أكانت؛ مُصاغةً شعرًا، أو سردًا، أو نثرًا.

ولعلَّ منالمُسلَّمات التي جُبِلَت عليها البشريَّة محبة الحكاية؛ فكلُّ العقائد والدياناتوالحضارات  احتوت على سرديَّاتٍ وأبطال، يختلفشكلُها باختلاف تطوُّر حياة الإنسان، وأدواته المعرفيَّة. فمنذ "ألف ليلةوليلة"، والسرديَّات الطويلة الممتدة لمئات الليالي، إلى عصر الرواياتالحديثة الممتدة لمئات الصفحات، وصولًا إلى القصص القصيرة الممتدة لمئات الكلمات،ظلَّ السَّرد يحافظ على دهشته، طالما أن الكاتب مُلمًّا بسرديَّته، وتحوُّلاتأبطاله، وحريصًا على أدواته الكتابيَّة.

 

(2)

توسلتُقرائيًّا بالمبادئ أعلاه في قراءتي للمجموعة القصصية "السرير 36"للقاص مازن محمد، التي صدرت عن "مجموعة تكوين المتحدة" في 158 صفحة،واحتوت على 80 نصًّا تنوّعت ما بين القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًّا.

ولعلَّه فيالصفحة السادسة منها، وردت جملٌ تأسيسيَّة يمكن أن تجعل من اليسير الدُّخول إلىعوالمها، نقتبس منها:

(أتمنىأن تروق لك هذه المجموعة القصصية، والتي جمعت مشاهد شتّى؛ بعضها حقائق، وبعضهاخيال، وبعضها اندماج خيالٍ بحقيقة، وبعضها أُمنيات، وبعضها مخاوف، وبعضها تشوُّشأفكار).

ونقتبسأيضًا:

(كونيطبيبًا، لا تَستغرِب إن شممتَ من الكلمات رائحة الديتول، أو سمعتَ صوت أجهزةالإنذار في قسم الطوارئ، أو رأيتَ تخطيطًا للقلب بمنحنياتٍ مُبهمة).

 

وأنا هنا، إذأُنوِّه إلى هذين المدخلَين، فلأنّهما يُشبهان الـ"مانيفستو" التحضيريالذي يُمكن من خلاله التعاطي مع النصوص ؛ فإشارة مازن إلى أنَّ النصوص فيها خيالٌ،وأُمنيات، ومخاوف، وغير ذلك، تعتبر محاولة لتحفيزه، وإشعال حاسّته القرائيَّةللبحث وراء النُّصوص.

أمّا إيرادمسألة الطبّ منذ المقدّمة، فيُسهِّل على القارئ تفهُّم وجود مصطلحاتٍ لها علاقة بالمهنة،ممّا يخلق حالة "تطبيع مبكّر" مع مجالٍ مُبهمٍ وغامضٍ كالمجال الطبيوعلاقة بمجال اخر مبهم كالكتابة.

وسأحاولتالياً تقديم إحاطة جماليّة وقراءة تذوُّقيَّة للنصوص، لا قراءةً نقديّة تشريحيّة.

 

(3)

 

العدد الكبيرمن النصوص يُصعّب الإحاطة بها، وهذا أمرٌ تشترك فيه معظم المجموعات القصصيّة؛لتشعُّب مواضيعها، وعوالمها، وشخصيّاتها؛ونادرًا ما تجد نصَّين يتشابهان.

 

إلا أنَّ"السرير 36" تنوّعت فيها العوالم بين عوالم إشارات المرور المُزعجة،وباحات المسجد النبوي الشّريف المريحة، وماء زمزم المبارك، وغرف العناية المركّزةالمشحونة بالتوتر، وأسرّة المستشفى المعتّقة بالفورمالين، وطاولات المقاهي الضاجةبالغائبين، وعوالم الأوطان المفقودة، وأصوات الحزن التي تضيق بها الحناجر، وعباراتالحبّ التي تحتويها الشفاه.

 

هذه العوالمالتي تحاورت فيها أصابع المحبّين المتوجّسين، وتسمّرت فيها العيون على الوجوهالمُغطاة بالبرقع خجلًا وعفّةً وحياءً. تعانقت فيها الأجساد وهي تنزع عنها رهقالسنين، ولهفة اللقيا، وبقايا الكلمات التي لم تنطق بها الشفاه.

عوالم طافتعلى هواجس الكُتّاب، ومعاناة المثقفين، ورجال الدين والسياسة، والجالسين على هامشالحياة.

 

(4)

لغة النصوصرشيقة، راقية، مرنة، ومناسبة للحدث وتداعيات السرد؛ فتارةً تكون صارمة، دقيقة،محدّدة، وثائرة تبحث عن الحرية والانعتاق، وتُشرِّح المجتمع وتناقضاته الكثيرة.لنقرأ مثلًا من نصّ "المتحف":

ماما،إيش هذا؟

عبايةعالرأس...

 من متحف جدّة الدولي.

 

وتارةً أخرىساخرة، عبثيّة، غير منضبطة، تُمثّل روح الكاتب الذي يريد أن يعيش حياته بلامثاليّاتٍ زائفة أو تكلُّفٍ مُصطنَع.

وأحيانًاهادئة، تقترب من كونها شاعريّة، لطيفة، ترفل في القُبَل والأحضان والأصابعالناعمة، والليالي الورديّة. لنقرأ من نص "Espresso ":

رفعتِالكوب بهدوءٍ بموازاة شفاهها، ثمّ ارتشفت بصوتٍ خافت لم يسمعه سواه. تسارع نبضهحينها، وصار منبع عطر القهوة كوبًا وثغرًا. خُيِّل له حينها أنَّ الكوب ينظر إليهويَلمِزه، كونه في نعيم كفّها، ليستقبلَ من عينيه وميضًا من حسد...

هذه النماذجتقريبية، وقد تكون مُخِلّة...

(5)

"السرير36" مجموعة قصصيّة مُرهِقة، وقراءتها لا تحتاج إلى تعجُّل؛ فأنت حين تقرأنصًّا، تدخل إلى تجربة كاملة، وتتولد لديك أسئلة، وتتخلَّق في ذهنك عوالم.  

ولعلّ منيطّلع على عنونة النصوص، سيدرك حجم الجهد الإبداعي الذي بذله مازن. فكلّ عنوانمفارقٌ للنص، وصلته به صلة المعنى، لا صلة المبنى، مما يُحوِّله إلى "نصٍّموازي"، ويُلقي على القارئ عبءَ المقاربة مع النص.

 

المجموعةتُناسب قارئ القصة القصيرة الباحث عن نصوصٍ تركض بين اليومي والفلسفي، وتتحدّىتقسيمات الواقع والخيال.وقد لا تروق لمحبّي السَّرد التقليدي المتماسك.

مازن محمدقاصٌّ محترف، وكاتبٌ يعرف متى وكيف وأين يقتنص فريسته القادمة من الحكايات. صاحبُعينٍ مُدرّبة، وحدسٍ متطوّر، وذهنٍ متيقّظ، يجعلك تتعامل معه بحذر بالغ؛ لأنَّك لوغفلت عنه لحظةً واحدة، سيحوّلك إلى نصّ.

لهذا، حينقرأت هذه المجموعة القصصية، مررتُ بكلّ التجارب، والعوالم، والشخوص،وسيظلّيُنازعني حنينٌ للرجوع إلى كثير من نصوصها، وهذا ما أعتقد أنه سيحصل لأي قارئٍآخر.

 

 

 

Comments 0

التعليقات

الإسم صحيح
الإسم ملطوب
التعليق صحيح
التعليق ملطوب