غطاء صوفي ثقيل (قصى قصيرة)

نُشر بتاريخ 2025/03/24


غطاء صوفي ثقيل

إلى الحبيب/ حفيظ الحاج

أهدي هذا النص

 (1)

الساعة الآن العاشرة مساء وأنت محشو داخل غطائك الصوفي الثقيل، على سريرك المهترئ في باحة المنزل، توزّع نظراتك بين شاشة هاتفك البطيء وصفحة السماء الصافية. فضاء المكان حولك ساكن ولا أثر لأي شيء. تسمع صوتاً خفيفاً ومتصلاً يأتيك من مكانٍ ما، تتّسع أذناك لتحديد موقع الصوت. والذي كان متناغماً ويتكرّر بطريقة منتظمة، تضع هاتفك برفق تحت الوسادة، وتستدير نصف استدارة، تُنصت بشدة وأنت تحاول تتبع مصدر الصوت. تستغفر الله العظيم وتحوقل، تبلتع ريقك بصعوبة وتُهمهمْ بقراءة أية الكرسي... تفكِّر أن توقظ الشخص النائم بقربك وتتراجع عن ذلك سريعاً، تستجمع قواك الخائرة، وتزيح الغطاء الصوفي عنك.. تجلس في منتصف السرير، تلتهم ما حولك بحدقات عينيك المتسعة، وذهنك المتحفّز، تتنفّس ببطء، وقلبك يكاد يخرجُ من مكانه. تضع قدمك اليمنى على الأرض برفق، وتتبعها اليسرى بخفة. الصوت النابع من السرير المهترئ يزعجك؛ فتطبق على أسنانك بقسوة. تحدّد مكان الصوت، تتحرك على أمشاط أصابعك كلصٍّ يتحفز لأخذ غنيمة.

الصوت ما زال رتيباً ومنتظماً وخفيفاً، إنه يأتي من الحمام المغلق هكذا غلب ظنك. كلما اقتربت منه اتّسعت عيناك حتى كادتا تخرجان من مكانهما، دقات قلبك تزداد ارتفاعاً كدوي طبول إفريقية.

أنتالآن على بعد خطوات من الحمام، يسري خدر خفيف في جسدك، تتعرق، وتحافظ بجهد عال على مستوى تنفسك. تدفع الباب برفق، لا شيء غير الظلام القاتم، تمد يدك المرتجفة نحو مفتاح الإنارة. ينتشر الضوء في أرجاء الحمام، فتبدو الأشياء أمامك واضحة، ملابسك القذرة التي غيرتها صباح اليوم، قطعة صابونة بائسة اهترأت من كثرة الاستخدام، وصنبور ماء قديم به تسريب خفيف.

 (2)

فور انتهائك من المكالمة مع صديقك العائد لتوّه من السفر، والذي يسكن في القرية المجاورة، أخبرت والدتك بالذهاب إليه بعد المغرب لشرب الشاي.

لميكن الفارق الزمني كبيراً بين المكالمة وخروجك. والذي جاء مبكراً؛ كي لا تتأخرعنه. اخترقت الشوارع بخفة، حتى وجدت نفسك أمام منزله. جلستما وسط بهو منزلهم الواسع تتبادلان الحكايات والضحكات.

ودّعته وخرجت متجهاً نحو دارك، مثبتاً سمّاعة أذن، تسمع من خلالها إلى لحن هادئ يناسب هدوء الطريق، والذي بدأ خالياً من أي أثرٍ للحياة، لتمتد أمامك مساحات مهولة من الرّمل والظّلام، وأنت تنسلُّ عبرها خفيفاً كنسمةٍ بين الأشجار . منتشياً في سيرك، لا تشعر بما حولك. نداء هامس يأتيك من مكان ما، ويدٌ خشنة حطت على كتفك. نَزعتْ سماعة الهاتف بقوة، واستدرت بذعر... لم تر شيئاً. نطقت الشهادتين بسرعة، بحثت عن لعابك لتبتلعه... جف حلقك وانعقد لسانك. تَلفّت بخفة في كل الاتجاهات، محاولاً التحكم في جهازك التنفسي. قلبك يخفق بقوة، يكاد يخترق قفصك الصدري. تتأكد أنه لا يوجد شيء، تتحرك خطوات حذرة إلى الأمام، تسمع أصوات خطوات من خلفك، تتوقّف مكانك، وبذات الهيئة التي كنت تسير عليها ولا تحاول تغييرها، فارداً يدك اليمني إلى الأمام ومؤخراً يدك اليسرى إلى الخلف تميل بجسدك للمقدّمة، تُرهف سمعك، وتحرّك رأسك إلى جهة اليمين تارةً، وإلى جهة اليسار تارةً أخرى، ولا تسمع شئياً.

 تتحدث بصوت مسموع (من أنت... من أنت.. من أنت..؟!) تضيع كلماتك المرتعشة في الفراغ، ويمتلئ قلبك بالحيرة. تتحرك مجدداً ولكن بسرعه أعلى، تزيد من معدل خطواتك... يزداد الصوت الذي خلفك، ووقعْ الخطوات. تركض بشدة، مصوباً نظرك إلى الأمام، لا تلتفت وراءك، تخترق الشوارع كسهمٍ طائش، وتستقر عند باب دارك مبللاً بالبول والعرق. ترتجف كطائر نزلت عليه أمطار، وتنام ليلتك والليالي التالية، وأنت تتقرفص داخل غطائك الصوفي الثقيل، رغم الجو المعتدل، يوقظك طنين البعوض مذعوراً، وتنكمش على نفسك عندما تسمع أصوات الضفادع.

 (3)

في الخامسة من عمرك، وعند سقوط الشمس في حِجر الفضاء الأخير؛ كنت أنت ومعك سبعة أطفال تلعبون قرب النهر، لا تكترثون لانفلات الوقت من قبضة حرصكم، فقد أدمنتم الطين وتسلق الأشجار كالقِرَدة، تطيرون مع الحشرات الصغيرة وتزحفون مع ديدان الأرض. تركضون حفاة ونصف عراة، وتصرخون كهنود حمر تحلقوا حول النار راقصين.

أشار أحدكم إلى جهة النهر، إلى حيث الدخان الذي انسلّ خفيفاً من بين الأمواج، ليرسم أشكالاً مرعبة على صفحة السماء، وكأنّها شياطين خرجت من جوف النهر. أمسك بعضكم البعض وأنتم محلّقين في الدخان المتزايد، بكى أحدكم وهو ينادي أمّه، وتبوّل آخر في سرواله، وصرخ آخر بذعر وهو يتحرك في مكانه بهيستيريا... أما أنت فقد أرخيت فكك الأسفل ذهولاً، ووقفت بلا حراك وبلا بكاء،. تَحنّط في هذه اللحظة ذهنك الرطب، وأنت تُثبّت نظرك على مصدر الدخان الذي بدأ يتصاعد، ويتشكّل في أشكال غريبة ومخيفة. الأطفال يحثّون بعضهم البعض على الركوض، يجر كل واحدٍ منهم الآخر، وأنت صامد وصامت في مكانك تراقب الدخان المتصاعد.

هرب الأطفال وبقيت وحدك هناك، للظلام، والرطوبة، والدّخان الذي بدأ ينتشر أكثر فأكثر. وفي غمرة تركيزك وصمودك أمام هذا المشهد الغريب، والذي اختلط فيه الدخان بالظلام، بدأت ترتفع ألسنة من النيران، كُنت تراها وهي ترسم لوحةً غريبة على صفحة الماء، ثم تنامى إلى سمعكَ أصوات استغاثة، ترتفع شيئاً فشيئاً.

دائرة النيران تتسع أكثر فأكثر، ترتفع إلى أعلى، مُشكّلةً لوحة ضخمة ومهيبة.

تُحدّث نفسك بالهروب، ورغبةً مُلحّة بداخلك للصمود أكثر، تتلفّتُ يمنةً ويسرى لا شيء غير الظلام الكبير وأصوات الصراصير. بدا لك أن شيئاً في الماء يتحرك بسرعة، هممت بتحريك قدمك اليمنى وجدتها متسمّرة في مكانها، قاومت لتحرّك يديك وجدتهما ثابتتين، حاولت أن تُخرج كلمة واحدة؛ تجمّدت الكلمات في فمك، لا يتحرك منك شيء سوى عينيك.

الدمُباردٌ في عروقك، ونملٌ يسري في جلدك من الخدر.

نداءيأتيك من الخلف، لا تستطيع الالتفات له، ويدين يحملانك بسرعة، وأنفاس لاهثة تمرعلى وجهك، لا تسمع منه شيئاً رغم أن شفاهه تتحرك.

حملكذلك الشخص وغاص بك وسط الأشجار الكثيفة والمتشابكة، حتى خلصَ بك إلى البيوت. ألقىبك على الأرض، أمام منزلك تحديداً. حافي القدمين، مشوّشاً، تتلفت حولك برعب.

ومنذذلك اليوم وأنت تشاهد الدّخان في كل مكان، تسمع أصواتاً تستغيث، ونيراناً تشتعل فيجوف الظلام، وأصوات خفيفة لا تعرف مصدرها، ونداءات متكررة.

 

 

Comments 0

التعليقات

الإسم صحيح
الإسم ملطوب
التعليق صحيح
التعليق ملطوب