حاشية على فهرس الملوك

نُشر بتاريخ 2025/02/06



(1)

تبدو المجموعة القصصية ( فهرس الملوك) الصادرة عن دار المرايا في العام 2023 م في ظاهرها أنها تحكي عن أزمان قديمة وأماكن خيالية، إلا أنها وللمفارقة العجيبة تصّلح لعصرنا الحالي والعصور القادمة في كل شيء. لُغتها وعوالمها وشخوصها والقضايا التي تُعالجها نصوص المجموعة؛ تعزز هذه الفكرة. فالكتابة عما يدور داخل القصور كانت دائمًا فكرة ثرية تُثير شهيّة الكُتّاب وتفتح المجال أمامهم ليُطلقوا العنان لخيالهم ويتحدّثوا عن أماكن لم يقتربوا منها وتمتلئ الذاكرة الشعبية بحكايات أسطورية عنها. والكتابة عن عوالم الحُكام وحياتهم الخاصة والسرّية ظلت فكرة مُلهمة وذات فضاء سردي واسع. فالمحبّون للحُكام وعُشاق الموائد المفتوحة وصُرر الدنانير الرنّانة والمجالس الغنائية الماجنة وجلسات النفاق المُريبة؛ يجعلون من الحُكام في مرتبة أقل من الآلهة بقليل، يمجّدونهم ويصبِغون عليهم هالة عظيمة من الإجلال. أما كارهيهم فيصورون القصور التي لم يقفوا ببابهما كأنها جحيم والحكام الذين لم ينالوا منهم شيئاً كشياطين. لكن المبدعين أمثال ليلى عبد الله صاحبة هذه المجموعة ومن زاوية الحكي الماتع والقصة القصيرة الساخرة المحّبوكة والتّلاعب الذّكي بالشخصيات يكتبون عن القصور كأنّها مَنازل عادية والحُكام بشرْ لهم نَزواتهم الخاصة  وضعفهم الذي يمكن أن يظهر في أبسط المواقف.
 

(2)

تكسر ليلى في مجموعتها هذه أفق التوقّع لأيّ قارئ يُطالع عنوانها (فهرس الملوك). هذه التسمية التي تُوحي بأن أبطال حكايات هذه المجموعة هم ملوك فقط، لتجعل القارئ يتفاجأ بأن الأبطال الحقيقيين هم شخصيات أخرى أكثر حيوية وحرية من الملوك أنفسهم، والحديث عنهم وعن عوالمهم أكثر متعة. فذوّاق الملك يعيش في افتتاحية  إحدى قصص المجموعة إلى نهايتها بصحة جيدة وبطن ممتلئة وذائقة متطوّرة، بينما يموت الملك من الخوف والقلق والجوع. وأيضًا الرسّام الذي يُوهم الملك القبيح بأنه أكثر جمالاً من أنيتم رسمه في لوحة عادية فيحوله إلى شخابيط فحمية تُمحى مع أول قطرة مطر تنّزل على أرضه التي يحّكمها، وهنا تبرز الإشارة الذكية لهشاشة الحُكام وسُرعة زوالهم دون أثر. وكذلك ذكاء المعالجة في قصة الملك المزيف، حين يأتي أحد من عامة الشعب إلى قصر الحكم لأنه يشبه الملك، ثم تتبدّل الأحوال ويصبح هو الملك ويُقتل الملك الأصلي، في سخرية واضحة من فكرة أشباه الملوك والحكّام وسُخرية من فكرة الحكم نفسها التي لا تتطلب في كثير من الأحيان كثيرًا من الذكاء. شخصيات أخرى تفوّقت على الملوك، مثل بنت الملك الحَكاء وشبيه شهرزاد التي ينقطع صوتها وتنقذها شخصياتها في استدعاء عظيم لذكرى قصص ألف ليلة وليلة ، والفقير الذي يلبس جلبابًا من نفايات الشعب، وغيرهم من الشخصيات الذكية والمراوغة والحكيمة والظريفة.
 

(3)

تنّتمي هذه المجموعة في اعتقادي إلى فنّ المكان الواحد، حيث يختار فيها الفنان، كاتبًا أو رسامًا أو سينمائيًا، موضوعًا أو مكانًا أو فكرة واحدة يُعبّر من خلالها عن تصوّراته وهواجسه وآراءه وفلسفته في الحياة. فكما لدينا أفلام تدور في سيارة متحركة أو كابينة هاتف، ومعارض رسومات تركّز على فكرة واحدة تَتفكّك إلى عدد من اللوحات، كذلك تفعل ليلى عبد الله، حيث اختارت الملوك وعوالم القصور كموضوع واحد لنصوصها الخمسة عشرة التي تضمها مجموعتها القصصية "فهرس الملوك". بذكاء كتابي ينم عن خبرة واضحة وحِيل سردية ماكرة وسخرية لذيذة تسري في جسد النصوص، حوّلت هذه القصور إلى قطع سردية بديعة وملّهمة تتحرّك بداخلها وخارجها بنهم حكائي ملحوظ. تبدأ الحكاية في مكان ما ثم يتصاعد النص ويتشعب ويتمدد في مساحات أخرى بتناغم سردي يجعلك تلتهم الحكاية تلو الأخرى، فتزول عندك فكرة الملل التي ربما تتوقعها من كتابة المكان الواحد.
 

 

 

 

(4)

 

تتميز نصوص المجموعة بجودة السّبك السردي وتَراص الجمل الموحية التي لا يَشوبها تَرهّل يُحيلها إلى كتابة وصفية، ولا اختزال يُحيلها إلى كتابة مُلغزة. بل سرد سَلس وبسيط يناسب الشخوص والقضايا التي من المدهش أنها تصلح لكل زمان ومكان، كما قلت في بداية هذه الكتابة. يكفي أن تمر عليك أي شخصية من شخصيات المجموعة حتى تستطيع بسهولة أن تجد لها مماثلاً في قصور اليوم ، ودواوين الحكم، أو مجتمعات  العامة.

 هذه المجموعة تنّتصر للشعوب ورغبتها في التغيير، وتنّتصر للبُسطاء الباحثين عن الحياة والحرية والانعتاق من كل قيد. تحّتفي بالمتذوقين واللصوص والساحرات والممثلين والعشّاق، وتنّتصر للرسّامين والحكائين والأذكياء من الشعب الذين يستفيدون من أنصاف الفرص.
هذه القصص لا يمكننا أن نقول إنها فنتازية بشكل مفارق للواقع ولا واقعية بحيث تقع في فخ التقريرية، بل هي دَفق جمالي بديع ينتصر للحياة وللكتابة وللحكاية.
 

 

Comments 1

التعليقات

Ahlam

3/24/2025

بالتوفيق يا عزيزي

الإسم صحيح
الإسم ملطوب
التعليق صحيح
التعليق ملطوب